الزواج والنصيب في الشعر

الزواج والنصيب في الشعر العربي

ارتبط مفهوم الزواج في الثقافة العربية بمزيجٍ معقّد من العاطفة، والقدر، والعادات، وهو ما جعله موضوعًا متجددًا في الشعر العربي منذ الجاهلية وحتى العصر الحديث. فالزواج ليس مجرّد رابطة اجتماعية أو عقد شرعي فحسب، بل هو في نظر الشعراء قدر مكتوب، ونصيب محسوم، وأحيانًا كثيرة ضياع لأحلام الحب الأول أو تحقيق لها. وفي كل هذه المواقف، كان الشعر أداة التعبير الأعمق عن مشاعر البشر تجاه هذه العلاقة المصيرية، فجمع بين الفرح بالحياة الجديدة، والأسى على ما فات، والتسليم لمشيئة النصيب.

الزواج في الوعي الشعري العربي

في الموروث الشعري العربي، لم يكن الزواج فعلاً عادياً يتم تناوله بوصفه مرحلة حياتية مثل باقي المراحل، بل كان يحمل دلالات وجودية، ترتبط بمسائل المصير والحظّ والقدر. فمن جهة، نجد أن الشعراء الجاهليين كثيرًا ما ربطوا بين الزواج والعادات القبلية التي كثيرًا ما حرمت العشاق من بعضهم، كما في قصص عنترة وعبلة، أو جميل وبثينة، حيث يكون الزواج حاجزًا أمام الحب، ونتيجة لسلطة النصيب أو القبيلة، وليس ثمرة طبيعية له.

ويُروى عن الشاعر الجاهلي قيس بن الملوح – أو “مجنون ليلى” – أنه كان يقول:

يقولون ليلى في العراق مريضة

فيا ليتني كنت الطبيب المداويا

تمرّ الليالي والشهور ولا أرى

غرامي لها إلا ازداد تجاويا

وما لبث أن تزوجت ليلى من غيره، لا حبًّا، بل نصيبًا، فبكى قيس مصيره، وأصبح الزواج في شعره فصلًا حاسمًا بين الحب والواقع، بين الحلم والحتمية.

مفهوم النصيب بين القدر والحرمان

النصيب في الثقافة العربية مفهوم مشبع بالبُعد القدري، حيث يُنظر إليه بوصفه حاكماً لا مردّ لقضائه. وعلى الرغم من أن الزواج هو قرار اجتماعي وأسري، فإن الاعتقاد الشعبي والشعري يربطه غالبًا بـ”النصيب”، الذي قد يأتي على غير هوى القلب. ولعل هذا ما جسّده الشعراء الذين عانوا من قصص حبٍ انتهت بزواج الحبيب من غيرهم.

ومن القصائد الشهيرة في هذا الإطار، ما قاله نزار قباني في الحب والزواج:

ما عادَ يغريني جمالُ نساءِ الكونْ

فكلّ العيونِ بعد عينيكِ خواءُ

تزوّجتِ؟ لا بأسَ… ذاكَ نصيبُكِ

ونصيبِيَ أكتبُ شعرَ البكاءِ

نزار قباني، برؤيته الحداثية، لم يبتعد عن المفهوم العربي للزواج كـ”نصيب”، رغم أنه شاعر الثورة على التقاليد، فالنصيب هنا حاكم قد لا يُرضي، لكنه لا يُرد.

الشعر كتوثيق للعلاقة الزوجية

لم يكن الزواج دائمًا في الشعر نهايةً للفقد، بل كان كثيرًا ما يُحتفى به بوصفه بدايةً للسكينة. وقد تناول العديد من الشعراء، خاصة في العصور الإسلامية وما بعدها، الزواج كحالة طمأنينة ومودّة ورحمة، وهي الألفاظ التي يرد بها الوصف القرآني للعلاقة الزوجية: “وجعل بينكم مودّة ورحمة”.

وفي هذا السياق، يكتب الشاعر محمود سامي البارودي:

يا مَن ملكتِ فؤادي يومَ أقبلتِ

وزُفتِ لي فرحًا بالحبِّ والقدرِ

قد كان وعدُكِ نجمًا لا يُطالُ يدِي

حتى التقينا بعقدٍ غير مُنْكسرِ

ففي مثل هذه القصائد، يكون الزواج نهاية سعيدة لقصة حب، لا فصلاً عنها، وهو التناول الإيجابي الذي يغلب في الشعر الإسلامي والوجداني الذي يربط الحب بالحلال، والعاطفة بالرباط المشروع.

رمزية الزواج في الشعر الصوفي

في الشعر الصوفي، تَحَمَّلَ الزواج دلالات رمزية، لم تكن دنيوية فقط، بل تشير إلى اتحاد الروح بالمحبوب الإلهي. وبهذا صار الزواج رمزًا للوصال الروحي، لا الجسدي فقط، وقد عبّر الحلاج وجلال الدين الرومي عن هذا المعنى مرارًا، فجاءت صور الزواج تتماهى مع التجلّي والانكشاف:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

نحن روحانِ حللنا بدنا

فإذا أبصرتني أبصرته

وإذا أبصرته أبصرتنا

في هذا النص، يصبح اللقاء بين العاشق والمعشوق – كما في الزواج – صورة للاتحاد الصوفي الكامل.

الشعر النسائي والزواج

تعبيرات النساء في الشعر عن الزواج كانت دومًا ذات طابع خاص، سواء في الموروث الشفهي كالأهازيج، أو في كتابات الشاعرات، فغالبًا ما كانت المرأة تنظر إلى الزواج كتحوّل وجودي في حياتها. وقد عبّرت شاعرات الأندلس، مثل ولّادة بنت المستكفي، عن هذا الجانب بطريقة تمزج بين التمرد والرغبة في الحب الحقيقي، كما في قولها:

أنا والله أصلحُ للمعالي

وأمشي مشيتي وأتيهُ تيها

أمكّن عاشقي من صحن خدّي

وأعطي قبلتي من يشتهيها

لم يكن هذا التناول مألوفًا في زمنها، لكنه يعكس كيف يمكن أن يُصاغ الزواج شعريًا من منظور أنثوي، ليس كقدر مفروض بل كاختيار حُرّ، أو حتى رفض لحياة تُبنى على النصيب وحده لا على الحب.

الشعر الشعبي والزواج

في الأدب الشعبي، خاصة في مناطق الخليج والمغرب العربي والشام، نجد قصائد وأهازيج وأغانٍ تحمل مضامين عميقة عن الزواج والنصيب، وتجمع بين الحنين، والسخرية أحيانًا من النصيب، والرضا به رغم الألم. من الأمثلة الجميلة المنتشرة في الشعر البدوي:

يا نصيبي وش جنيت من غلاك

غير دمعٍ ساكبٍ وسط الخدود

يا زمان الحب ما خلّى وراك

غير طيفٍ من وصاله مفقود

الشعر الشعبي يبقى الأقرب إلى الناس، ويحمل في طيّاته توثيقًا حيًّا لمشاعر العشّاق، وما يمرّون به من خيبة أمل أو بهجة ارتباط.

الشعر والمجتمع: الزواج بين الحب والتقاليد

الزواج في الشعر لا ينفصل عن السياق الاجتماعي، فهو في كثير من الأحيان نتاج تقاليد وقيم، قد تتناقض مع العاطفة. لذلك نجد شعراء كثيرين ينتقدون الأعراف التي تفرّق بين الأحباب، وتُدخل النصيب كذريعة اجتماعية تفصل بين العاشقين. ومن ذلك قول إيليا أبو ماضي:

قالوا نصيبك أن تَهيمَ بغيرِها

وتعيشَ مصلوبَ الأماني مفردا

قلنا: وهل نصُبُ الحنينِ مشيئةٌ؟

أم أننا خُلقنا لنبكيَ رغدا؟

أبو ماضي في هذه الأبيات يتساءل عن النصيب كحُكم نهائي، ويقف عند المفارقة بين الواقع وما يستحقه العشاق من نهاية سعيدة.

زواج المحبين في الشعر الحديث

في الشعر العربي الحديث، يتراجع الخطاب القَدَري لصالح الخطاب الإنساني الذي يربط الزواج بالاختيار والحب، وإن بقي النصيب جزءًا من التعبير الثقافي. فالشعراء المحدثون، أمثال محمود درويش وأدونيس ونازك الملائكة، كتبوا عن الزواج من زاوية فلسفية أو وجدانية، حيث الزواج قد لا يكون نهاية الحب، بل استمرار له بصيغة أخرى، أو أحيانًا قطيعة معه حين يأتي ضد الإرادة.

قال درويش:

لم يكن حبنا لعبةً من هواياتنا

كان فوقَ الحنين وفوقَ النصيبْ

فمتى تَشربينَ دمي مثل قُبلة؟

ومتى تُوقظينَ الغياب القريبْ؟

الزواج في الأمثال الشعرية

الزواج والنصيب لم يظهرا فقط في القصائد الطويلة، بل في أبيات مختصرة وجوامع حكم، مثل:

مكتوب ومقسوم وما أحد يبدّل

ولو تباعدنا على غير ميعاد

نصيبك يصيبك لو طاح في البحر

ولا ينصيبك إلا الله لو كاد

هذه الأبيات تُجسّد الفكرة العربية التقليدية بأن النصيب لا مهرب منه، وأن الزواج جزء من كتاب مكتوب لا يمكن تغييره، مهما حاول الإنسان.

الجدول: أبرز مواقف الشعراء من الزواج والنصيب

الخاتمة

تجلّى موضوع الزواج والنصيب في الشعر العربي بوصفه مرآة صادقة لمشاعر الإنسان وتقلّباته، بين الحب والقدر، بين الرغبة والواقع، بين الحرية الاجتماعية والتقاليد. فقد تعامل الشعراء مع الزواج تارةً كنعمة مكتوبة، وتارةً كلعنة أملٍ ضائع، لكنه في كل الأحوال ظلّ موضوعًا غنيًا، يعكس أعمق مشاعر الإنسان وصراعاته الوجودية.

المصادر:

• طه حسين، في الشعر الجاهلي، دار المعارف.

• نزار قباني، قصائد حب عربية، دار نزار قباني للنشر.